ابن تومرت.
مصلح ديني مراكشي مشهور، يعرف بمهدي الموحدين. واسمه – كما يقول ابن خلدون – "أمغار" وهي كلمة بربرية معناها رئيس، ومعنى ابن تومرت في هذه اللغة: ابن عمر الصغير، وهو اسم أبيه الذي كان يدعى أيضاً عبد الله، وأسماء أسلافه بربرية كذلك، وتاريخ مولده مجهول. على أنه لا بد وأن ينحصر بين عام 470هـ (1077 – 1078م) و480هـ (1087 – 1088م). ولد في "إيجلي إن وارغن" وهي قرية بجبل السوس، وتنسب أسرته إلى إيسرغين، وهي فرع من قبيلة هنتاتة، إحدى قبائل جبال أطلس المهمة. ويحدثنا ابن خلدون أن أهل بيته كانوا أهل نسك، وأن ابن تومرت كان قارئاً محباً للعلم، وكان يسمى باللسان البربري "أسافو" ومعناها "الضياء" لكثرة ما كان يسرج القناديل بالمساجد لملازمتها.
ما عسى أن يكون الباعث له على الرحيل إلى المشرق، يحتمل أن يكون ذلك رغبته في طلب العلم، إذ لا يمكن القول بأنه قد تكهن بالخطة التي نفذها فيما بعد، تلك الخطة التي ربما كانت ثمرة ما تلقاه من التعاليم في المشرق.
وكانت دولة المرابطين التي كانت تحكم المغرب وجزءاً من الأندلس قد بدأ اضمحلالها، وتبع الغزو انحطاط الأخلاق، ودلت البحوث التي ظهرت في ذلك العهد على ضعف الحياة العقلية. وقد كان مذهب بن أنس شائعاً حينذاك، وهو من أكبر المذاهب الإسلامية تشدداً، كما كانت الدراسات مقصورة على "الفروع"، في رسائل حلت محل القرآن والحديث، وهو ما عارضه الغزالي بشدة في المشرق في قسم من كتابه "إحياء علوم الدين" موسوم باسم "كتاب العلم"؛ وقد أثار هذا الكتاب غضب بعض الفقهاء أمثال القاضي عياض كما أثار بعض الأشاعرة – كالطرطوشي – الذين كانوا لا يسمحون لواحد من ذوي الأنظار الحرة بالاندماج في مذهبهم، ولذلك أحرقت كتب الغزالي بأمر أمراء المرابطين، وكان مذهب "التجسيم" في أبشع صوره شائعاً عندهم، فأخذوا التعابير المجازية التي في القرآن بحرفيتها، وصوروا الله بصورة جسمية.
وبدأ ابن تومرت رحلاته بالأندلس، ولا شك أن آراءه تأثرت بكتابات ابن حزم. ثم ذهب إلى المشرق، إلا أن تأريخ رحلاته غير معروف بصفة قاطعة، فإذا لم نأخذ برواية "المراكشي" فإن ابن تومرت يكون قد حضر في زيارته الأولى للإسكندرية وتتلمذ على الطرطوشي الذي كان من الأشاعرة رغم معارضته للغزالي، ولقد تركت هذه الدروس أثراً باقياً في نفس ابن تومرت. وحج بعد ذلك إلى مكة، ودرس في بغداد، ويحتمل أن يكون قد درس كذلك في دمشق، وفيها تشيع بأنظار الغزالي، وأشار الكُتاب المتأخرون لهذا التأثر بقولها إن ابن تومرت أجاب دعوة الغزالي، وصمم على إصلاح عقائدة وظنه. والحقيقة أن الاثنين لم يلتقيا قط.
وقد غيرت أعوام الطلب والرحلة الطالب المغربي تغييراً تاماً، وهو – إن لم يكن قد رسم خطته بالتفصيل – قد تصورها بالإجمال. ولما ركب البحر مُغرباً شرع في تغيير المنكر على ركاب السفينة وبحارتها، وألزمهم بإقامة الصلاة وقراءة القرآن، وذُكرت بعد ذلك كرامة له رواها المراكشي تؤيد هذه الواقعة. واستمر في نشر دعوته – مستوحياً عقائد الأشاعرة – في طرابلس والمهدية، وكان سلطانها حينئذٍ يحيى بن تميم الذي أجله عندما سمعه يدافع عند دعوته، ثم واصل الدعوة في المنستير، ثم في بجاية. وأصبح بعد ذلك ناقداً أخلاقياً صارماً عاملاً بالحديث: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان". وغضب الأمير الحمودي لاعتداء ابن تومرت على سلطته، وقام الشعب في وجهه حتى هرب إلى "بني ورياغل" من قبائل صنهاجة المجاوة لبجاية، فقاموا بحمايته، وقد لقي ابن تومرت بينهم عبد المؤمن وذلك على خلاف ما ورد في "روض القرطاس" من أن لقاءهما كان في "تاجرة"؛ وقد كان على عبد المؤمن هذا تحقيق دعوة ابن تومرت، وكان طالباً فقيراً من تاجرة في شمال "ندرومة"، وكان كابن تومرت يقصد المشرق للطلب. وتزعم القصة التي تنسب لابن تومرت أخذ علم الجفر من المشرق، أنه رأى في هذا الشاب علائم خاصة تدل على أنه ضالته المنشودة، كما رأى الغزالي في نفسه مصلح المستقبل. وكل ما نعرفه أن ابن تومرت تحدث إلى عبد المؤمن، واختبره بدقة وانتهى إلى إقناعه بالعدولة عن رحيله إلى المشرق. وارتحل ابن تومرت بعد ذلك إلى المغرب عن طريق "وانشريش" و"تلمسان" حيث نفاه حاكمها، ثم ذهب إلى فاس ومكساسة حيث قابل أهلها دعوته بالضرب. ووصل آخر الأمر إلى مراكش، وهنا برزت فيه شخصية المصلح الخلقي الديني أكثر من ذي قبل، وكان نساء "لمتونة" يسرن سافرات كما يفعل نساء "الطوارق" و"القبائل" اليوم، فلما رآهن ابن تومرت عنفهن، وألقى بـ"الصورة" عن دابتها، وهي أخت الأمير المرابطي إلا أن الأمير – وكان أكثر حلماً وتسامحاً من المصلح – لم ينزل به ما يستحقه من العقاب، واكتفى بأن عقد مجلساً يناظر فيه ابن تومرت فقهاء المرابطين؛ فتناظروا في أشباه هذه المسائل: هل تنحصر طرق العلم أم لا تنحصر؟ أصول الحق والباطل أربعة: العلم والجهل والشك والظن. ولم يكن عسيراً على ابن تومرت أن ينتصر على مناظريه، مع أنه كان بين أولئك قاض أندلسي نابه لم يكن أقل تصلباً منه يُدعى مالك ابن وهيب الذي أشار على عليّ بقتله، فلم يستمع إليه الأمير وأبقى على حياته، ففر ابن تومرت إلى "أغمات" حيث اشترك هناك في مناظرات أخرى، ثم ذهب إلى جبال المصامدة، وبدأ دعوته فيها بطريقة منظمة، وكان في أول الأمر منكراً لكل ما يخالف القرآن والحديث من أخلاق وعادات، وبعد أن أصبح له نفوذ خاص في الوسط الذي كان يحيط به، شرع في نشر مبادئه، فهاجم بشدة المرابطين الذين كانوا يتبعون المذاهب الباطلة، وكان يرمى كل من يعارضه بالمروق، وأعلن حرباً دينية ليس على الوثنيين والمشركين فحسب، بل على المسلمين الآخرين أيضاً. واختار عشرة من الصحاب منهم عبد المؤمن، وبعد أن هيأ الأذهان بذكر صفات المهدي، اعتبر نفسه ذلك المهدي، واصطنع نسباً ينتهي به إلى علي بن أبي طالب. ولم تصبح دعوته أشعرية خالصة، بل خالطها كثير من الآراء الشيعية؛ ويذكر المؤرخون أنه اصطنع جميع الحيل لتدعيم دعواه. وجمع حوله قبيلة هرغة وجزءاً كبيراً من المصامدة الذين كانوا في عداء دائم مع قبيلة لمتونة مع أن يوسف بن تاشفين قد شيد مدينة مراكش بقصد إيقافهم عند حدهم. وأعد لهم ابن تومرت بحوثاً مختلفة باللسان البربري، وكان يجيد التكلم به، منها رسالة "التوحيد" التي ما زالت باقية إلى الآن باللغة العربية والتي نشرت في الجزائر عام 1903. ولقد وصل بهم الجعل باللغة العربية إلى حد أن ابن تومرت عندما أراد تعليم المصامدة الأجلاف سورة الفاتحة، سمى أفراداً منهم بكلمة أو آية من هذه السورة: سمى الأول "الحمد لله" والثاني "رب" والثالث "العالمين" وطلب إليهم أن ينطقوا بأسمائهم على الترتيب الذي وضعه لهم، وهكذا وفق إلى تعليمهم هذه السورة الأولى من القرآن. ولقد رتب أتباعه ونظمهم في طبقات: الطبقة الأولى تتألف من عشرة، هم أول من أجاب دعوته، أسماهم "الجماعة"؛ وتتكون الثانية من خمسين، هم المخلصون من أتباعه، أسماهم "المؤمنون" أو "الموحدون". ولم يمتد نفوذه إلى كل البقاع، أو على الأقل لم يكن له نفوذ بين أهل "تينمل"، وقد دخل هذه المدينة بخدعة قتل بها خمسة عشر ألفاً من الرجال، وسبى النساء وقسم المنازل والدساكر بين أتباعه، وشيد كذلك حصناً؛ ودخلت القبائل المجاورة في دعوته طوعاً وكرهاً. وفي عام 517هـ أرسل جيشاً بقيادة عبد المؤمن لمحاربة المرابطين، ولكنه هزم هزيمة منكرة، ورأى نفسه محاصراً في تينمل، وفكر بعض أتباعه في التسليم، ولكن لجأ ابن تومرت – بمعاونة عبد الله الونشريشي الذي استدعاه من ونشريش – إلى الخدعة حتى إذا استعاد مكانته أمر بإعدام كل من كان موضعاً للشك، ويقول ابن الأثير: إن سبعين ألفاً قد أعدموا وقتذاك، وفي هذا العدد مبالغة ظاهرة. وأخذت تقوى دعوى الموحدين بقدر ما أخذت تضعف قوة المرابطين في الأندلس وإفريقية، ولما توفى المهدي عام 524هـ(1130م) – ويقول البعض: 522هـ(1128م) – كان عبد المؤمن الذي أوصى ابن تومرت بأن يكون خليفة له، على استعداد لمواصلة النضال. ولا يزال قبر ابن تومرت موجوداً في تينمل، أما اسمه وتاريخه فقد أصبحا هناك نسياً منسياً. وجاء في "روض القرطاس" أن ابن تومرت كان جميل الطلعة، أسمر اللون، منفصل الحاجبين، قوي النظر، أقنى الأنف، غائر العينين، خفيف اللحية، له شامة سوداء على يده، وكان داهية قادراً، تساوره الشكوك، لا يتردد عن إراقة الدماء، كما كان حافظاً للحديث، عالماً بالمسائل الدينية، مبرزاً في المناظرة